لماذا الازدحام و الفوضى حتى في المقابر المغربية ؟
بقلم: الدكتور جواد مبروكي
مؤخرا زرت مقبرة ولاحظت أن المدافن صارت مزدحمة والواحد منها فوق الآخر ولا تخضع لأي نظام أو خريطة والممرات الخاصة للزوار الأحياء شبه منعدمة والكل يريد دفن اقربائه في اقرب مكان من باب دخول المقبرة ولا تستطيع العثور بسهولة على موطئ للدفن. ولاحظت حفر قبر بين قبرين بدون أي فاصل بحيث يجب على الأحياء أن يضعوا أرجلهم على المقابر ليسلكوا الممرات الضيقة بينما تختلط المدافن و تتداخل مع بعضها البعض بحيث يصعب التمييز بينها . فلاحظت حينئذٍ أن حتى المقبرة مهيكلة على شاكلة الشوارع والأسواق الشعبية ولا أحد فيها يحترم الآخر وكل شخص يسعى أن يسلك سبيله بدون مراعاة إخوانه المواطنين وكأنه هو أهمهم وسيدهم.
الكل يشتكي من الفوضى في الشوارع وفي الإدارات وفي الأسواق وفي أحوال السير و السياقة وحتى في المخابز وعند محلات البِقالة و لا تغيب تلك الفوضى عن الشواطئ والمخيمات و مستودعات السيارات وعن الحمامات العمومية بل تمتد كذلك إلى الاجتماعات وداخل الملاعب الرياضية و المسارح و قاعات الافراح و المقاهي. وصار من المعتاد رؤية الممتلكات العمومية مملوءة بالباعة المتجولين بين طاولات المقاهي و الحافلات و سيارات الأجرة والكل ساخط عن هذا الوضع ويتألم منه ويرى أنه ينتهك كرامته وحريته ولكن للأسف في نفس الوقت لا يتألم أحد للمواطنين الآخرين “هيِ راسي وْالسلام”!
الى جانب هذه الفوضى الضاربة في النظام العام نرى أن المغربي لا يحترم حرمة الآخر وفي اي مكان كان تراه يقترب منك الى درجة الاحتكاك بك ونرى هذا بشكل واضح في فضاءات الأسواق و الادارات وفي أي مكان وكأنك حائط يتكئ عليك وهذه الظاهرة نراها تتطاول حتى في المقابر بحيث تغيب حرمة الميت و ينتهك قبره بسبب التزاحم و التداخل بين المدافن.
و كم أتألم بشدة عندما اضطر لزيارة المقابر المغربية وأتساءل في حيرة لماذا هذه الفوضى مع أن حلها في الأصل مسألة بسيطة وكل ما في الأمر هو أن يتم وضع خريطة هندسية للمقبرة و تحديد عدد المدافن و مقاييس فواصلها بشكل واضح بحيث يكون هناك متسع كافي لـممرات الراجلين وبذلك نحترم حرمة موتانا و كرامة أهلهم وهذا شيء أوصت به كل الأديان و الشرائع بل هي من صميم مواثيق حقوق الإنسان ولو كان متوفياً.
و تحت مجهر التحليل لماذا المجتمع المغربي فوضوي في الحياة و الممات وما هي أسباب هذه السلوكيات العشوائية في كل جوانب الحياة؟
فهذه الفوضى تعكس في الواقع الفوضى الموجودة اصلاً في ذهن المغربي بسبب غياب هيكلة متوازنة وتركيبة سليمة وبنية قويمة وبرمجة صحيحة لدى العقل المغربي والتي هي نتيجة الأساليب والمناهج التربوية السلبية السائدة في مجتمعنا سواء في المنزل أو المدرسة.
أ- في المنزل:
* مع الأسف الشديد لا يتلقى الطفل نموذجاً صحيحاً للنظام المنزلي و لا في العلاقات الأسرية بين أفراد العائلة مع غياب احترام فضائه ولعبه و قيمة وقته و ويُعتبر الطفل حسب النموذج السائد مجرد كائن ضعيف لا يفهم شيءً ويجب إملاء كل ما يجب عليه القيام به أو تحديد ما هو ممنوع عليه بدون أدنى مشاورة معه أو تقديم استدلالات وتفاسير منطقية تجعله يستعمل قدراته العقلية و الفكرية لتقويتها وهيكلة ذهنه و الاقتناع بأهمية الشيء بدون أن يكون تحت إرهاب الخوف والرعب من العقوبات الجسدية و المعنوية.
* غياب اللعب مع الطفل: هذا شيء مفقود على وجه الاطلاق في ثقافة مجتمعنا بحيث نرى ان جل الآباء لا يخصصون قسطا من الوقت للعب مع طفلهم ويعتبرون اللعب مسألة تافهة من شأن الطفل فقط. علماً أن للعب عدة مزايا منها توطيد العلاقة العاطفية مع الطفل وترسيخ القواعد الاجتماعية لديه لأن للعب قواعد يجب احترامها وتوجب على الطفل تشغيل ذهنه وجلب مخطط للوصول الى النتيجة المنشودة وبهذا ينشط الطفل مواهبه و قدراته الفكرية و الجسمانية. كما أن الطفل في حاجة ماسة للعاطفة الابوية لتقوية بنية دماغه و ثقته بالذات. ومهما كانت طبيعة اللعبة فإن لها نفس المنافع لأن المهم هو ما يجري من تبادل عاطفي اثناء اللعب مع الآباء وليس في اللعب لذاته. كما أن قواعد التربية الحقيقية تتحقق أثناء أوقات اللعب.
* غياب سرد أو قراءة القصص الخيالية: في ثقافتنا كل ما هو خيالي يعتبر لا شيء ولا منفعة فيه ولهذا يحرم الطفل من انتاج تصوراته والتعبير عن خيالاته بحكم أن الآباء يرغمانه على الرجوع إلى الواقع و يستهزؤون بـعالمه الخيالي ويشترون له قصصاَ لا خيال فيها وهذا خطأ كبير لأن الطفل هو في غاية الحاجة لـ تكوين عالم خيالي مناسب له وخاص به لأن في هذا العالم يطور قدراته الذهنية ويبرمج دماغه ويتسنى له فيه تفريغ كل إحباطاته و انفعالاته اليومية حتى يصل الى حل كل صراعاته الداخلية مما يجعله مسالما وهادءً بحيث لا يلجأ إلى العنف لتفريغ صراعاته الباطنية.
* عدم احترام الطفل وتعريضه للتعنيف والقمع يجعله هو بدوره لا يحترم أحداً و يمارس العنف ضد الغير.
* عدم زرع الحس بانتمائه للمجتمع ودوره في تطويره يجعله غير مبالي بمستقبله و كارهاً له.
* مبدأ “اللهْفَة” و “كونْ قافْزْ ودْرْبْ يْدّيكْ” الذي يتعلمه الطفل يجعله يفكر دائما في الطرق السهلة التي تمكنه من أن ينال مراده هو الأول ويحتال على الآخرين حتى بالغش و الخداع بحيث تكون هذه الممارسات مصدر فخر وانتصار له ولأبويه بحيث يصدق عليه لقب”عفريت و جن”.
ب- في المدرسة:
* يتعلم الطفل روح المنافسة والسباق ليكون أحسن تلميذ وينجح و يتفوق بأي طريقة كانت وكأن المدرسة ملعب رياضي يجب على كل طفل تحطيم الرقم القياسي فيه وهذا ما يجعله في الحياة اليومية يتنافس في أي مكان وحتى في الأكل ويفكر كيف يكون الأول ويستحوذ على أكبر قسط لوحده من المكاسب بدون أي روح مشاركة واحترام للآخر.
* اعتبار ذهن الطفل إناءً فارغاً وعلى المعلم املائه بما يعتبره نافع له ولا تُترك الفرصة للطفل أن ينمي قدراته الذهنية و النقدية وهذا سبب تدمير هيكلة دماغه و تعطيلها عن الشراكة في صنع المفاهيم والقرارات مع الآخرين. وكما مُلء ذهنه في الصغر بدون حوار متبادل معه أو ادنى مشاورة معه فهو بالتالي سيفعل ما يشاء في الكبر بدون اعتبار رأي الآخرين أو المشاورة معهم.
و باختصار فإن كل هذه الأمور من الأسباب الرئيسية التي تخلق حالة الفوضى العارمة والازدحام العشوائي في العقلية المغربية وتنعكس بالتالي في مختلف جوانب الحياة اليومية و في أي مكان حتى في المقابر لأن ذهن المغربي غير منظم في تركيبته ومختل في برمجته أو بالأحرى بُرمج على “التَّحْرامِياتْ” و “تْخْلْويضْ” و “تْقوليبْ”.