التعايش المجتمعي في عصر الـ “فيسبوك”
بقلم: سالم الكتبي
لاشك أن تطبيقات الثورة التقنية في مجال الاعلام والمعلوماتية تتماس بشكل مباشر مع الركائز المتعارف عليها تقليدياً لتحقيق الأمن والاستقرار في المجتمعات كافة، فنحن نشهد منذ سنوات مضت قوالب متعددة من وسائل الاعلام الجديد المدعومة بتطورات هائلة في الهواتف الذكية، التي تمثل دعامة رئيسية لهذا النمط من الاعلام، الذي يسمى أيضاً بالاعلام الاجتماعي، الذي يعد “فيسبوك” و “تويتر” أحد أبرز تجلياته المؤثرة في تشكيل اتجاهات الرأي العام وقناعاته.
ولأن التطورات على الصعيد التقني لها تأثيرات على الأصعدة المختلفة، ومنها بطبيعة الحال مايتعلق بالجانب الاجتماعي، فإن دولة الامارات العربية المتحدة، قد ارتأت منذ فترة أن هناك علاقة ما بين الأمن المجتمعي والتطورات الحاصلة عالمياً في مجال تكنولوجيا الاتصالات، وتعاملت مع هذا الأمر بشكل استباقي.
ومنذ أشهر عدة، أصدرت دولة الامارات العربية المتحدة “قانون مكافحة التمييز والكراهية”، الذي أرى أنه نموذج تشريعي استباقي، وواحد من أفضل الدروع القانونية، التي وضعت منذ نشأة الدولة لجهة ضمان أسس الأمن والاستقرار والتعايش. قد يقول لي قائل لماذا تحتفي بهذا القانون تحديداً وتضعه في مرتبة متقدمة من الأهمية، وهنا أشير إلى أسباب عدة أولها أن الامارات من الدول التي تدرك جيداً طبيعة التحديات الاستراتيجية التي تواجه مسيرتها التنموية وأمنها واستقرارها، وتتعامل معها بجدية ومن دون هدر للوقت، ومن هنا تأتي أهمية هذه القانون، فلدينا على أرض الامارات جنسيات ربما يفوق عددها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومن ثم فإن هناك بالتبعية حاجة ملحة إلى وضع إطار دقيق يضمن تعايش هذا الكم الكبير من الاعراق والجنسيات، بحيث تتجذر قيم التسامح والتعايش واحترام الآخر، ويتفرغ الجميع للعمل والانتاج، وهنا جاءت أهمية هذا القانون الذي أصدره صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة٬ حفظه الله٬ في شهر يوليو الماضي٬ متضمناً مواد تحقق المساواة بين أفراد المجتمع وتجريم التمييز بين الأفراد على أساس الدين أوالعقيدة أو المذهب أو الملة أو الطائفة أو العرق أو اللون أو الأصل الإثني. السبب الثاني الذي يؤكد الأهمية القصوى لهذا القانون يتمثل في موجة التطرف والارهاب التي تعانيها المجتمعات العربية والاسلامية في المرحلة التاريخية الراهنة، وهي موجة تقتات على ممارسات الكراهية والتحريض والخطاب الديني والفكري التمييزي، وغير ذلك من سلوكيات تمثل في مجملها تهديداً حقيقياً للأمن والاستقرار الاجتماعي في أي دولة تبتلى بمثل هذه الممارسات، وهنا يأتي دور القانون كحائط صد قوي للتطرف الفكري والديني، بكل أطيافه وألوانه واتجاهاته، وبناء ثقافة مجتمعية قائمة على الاحترام المتبادل والتعايش الحضاري من خلال تجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها ومكافحة أشكال التمييز كافة٬ ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير٬ ما يجعل القانون أداة حقيقية لغرس ثقافة التسامح في مواجهة ثقافة التحريض والعنصرية والعداء، بحيث يصبح القانون هو صاحب السطوة الحقيقية في ضمان الأمن المجتمعي.
وللموضوعية أقول أن دولة الامارات عندما سنت هذا القانون المهم لم تكن تعاني أعراض الكراهية والتحريض، فلم يصدر القانون كرد فعل لواقع ما، ولكنه جاء كخطوة تحصينية استباقية تحفظ التماسك الاجتماعي وتحول دون أي تهديد للسلم الاجتماعي.
إحدى الإشكاليات التي تواجه عالمنا العربي والاسلامي أننا نردد كثيرا مفردات ومفاهيم مثل التسامح والتعايش من دون وضع آليات لتحقيقها، فمثل هذه المفاهيم بحاجة إلى غرسها ورعايتها من جانب الدولة، التي هي الضامن الفعلي لأمن واستقرار المواطنين، بحكم العقد الاجتماعي القائم، الذي يمثل بدوره أحد الأسس الفكرية لما يدور من حولنا من نقاشات وجدل حول الحريات ومبادىء حقوق الانسان وغير ذلك، ويصبح القانون أحد الضوابط الضرورية اللازمة لترجمة هذه المبادىء والأسس والمفاهيم إلى آلية لترشيد سلوك الأفراد والجماعات بما يحقق المصلحة العامة، ويحول دون أي انحرافات فكرية أو سلوكية تنال من الإطار القيمي العام للمجتمع، ويترجم قيم التعايش والتسامح إلى ثقافة حقيقة يدرك أبعادها وحدودها المعنوية أفراد المجتمع كافة.
ما يجب الانتباه إليه أيضاً في هذا الصدد أن التحديات الفكرية والثقافية التي تواجه المجتمعات العربية والاسلامية لا تتعلق بتنظيمات التطرف والارهاب التي تتخذ من الدين الاسلامي ستاراً فقط، بل تتضمن أنماط أخرى من الانفلات الأخلاقي والفهم الخاطىء للحريات وغياب الوعي بالمسؤولية الاجتماعية، ومظاهر التطرف الفكري والديني والسياسي، التي ترتدي أقنعة مختلفة يصعب حصرها، وجميعها على حد سواء، تفرز الخطر ذاته وتهدد قيم التعايش والاستقرار.
وقد قرأت منذ أيام نقاشات محتدمة حول أهمية “الأمن العقدي” بين مؤيد ومعارض وسط تفاوتات مختلفة ومساحات تفسير متباينة للمفهوم، ولكن ما لفت انتباهي أن البعض يرفض وجود المفهوم من أساسه ويعتبره نوع من سيطرة الدولة على الحريات، ويربط قسرياً بين مفردة “الأمن” و مفهوم “الدولة الأمنية”، ويعتبره نوع جديد من الأمن الذي يستهدف مصادرة الحقوق والحريات!!
و لاجدال في أن الاختلاف والنقاش هو بالاساس ظاهرة صحية ايجابية، ولكن نسف الأسس وخلط الأوراق ليس أمراً ايجابياً على الإطلاق، فما وصلت إليه أرقى المجتمعات الانسانية، ليس سوى نتاجاً للأخذ بأسباب الحفاظ على الأمن والاستقرار، وإلا فما الداعي لوجود الدولة المعاصرة من الأساس، فالفارق بين الحياة البدائية والدولة بشكلها الحالي هو ببساطة مايعرف اصطلاحا بالعقد الاجتماعي الذي يتضمن روزنامة من الحقوق والواجبات لطرفي العلاقة، وبالتالي هناك التزامات تراوح بين الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية …الخ.
إحدى الإشكاليات أن مفهوم “الأمن” سواء قصد به أمن المجتمع أو الأمن التقليدي يثير حفيظة البعض، ما يستلزم ضبط المفاهيم من أجل بناء حالة موضوعية من التواصل، فما أقصده ـ وغيري كثيرون ـ بالأمن هو ببساطة الأسباب المحققة لما نشهده من مظاهر أمان واستقرار توفر مجالاً للعمل والانتاج والسعي وراء إسعاد المواطنين والمواطنات وتحقيق طموحاتهم المعيشية والحياتية، ومن ثم تصبح “معالجة” أي معوقات على هذا الدرب بمنزلة مسألة حيوية بل وضرورية تقع في قلب المهام الموكلة إلى الدولة، وهذا هو ما يعرف اصطلاحاً بأمن المجتمعات أو الأمن الاجتماعي.
الإشكالية أيضا لا ترتبط باثارة نقاشات حول القضايا والموضوعات من هذا النوع، ولكن تبقى الاشكالية دائما وأبداً في “ضبط” المفاهيم والمصطلحات المستخدمة في أي حوار قد يتماس مع قيم المجتمعات وثوابتها الدينية والفكرية والاخلاقية، فلا أحد يريد استنساخ تجارب انسانية قديمة عانتها الحضارة الغربية، لاسيما في ما يتعلق بالعلاقة الشائكة ضمن ثنائية “المقدس” و”المدنس”، ولا أحد يريد صراعات عبثية تصرف أنظار الدول عن أهدافها ومراميها التنموية التي تحتاجها شعوبنا بإلحاح، لذا فإن الأمن العقدي للمجتمعات ليس درب من الرفاهية أو التقييد على الحريات ـ كما يقال ـ بل أحد متطلبات تحقيق التعايش وتكريس السلم الاجتماعي.