السعودية / إيران، هل دقت ساعة الحقيقة ؟
أحمد عصيد
كنت دائما أقول إن النظامين التيوقراطيين سينتهيان إلى إشعال نار حرب طائفية معمّمة في المنطقة، تقضي على الأنظمة القائمة، وتأتي بعدها مرحلة الترسيخ الديمقراطي في بلدان ظلت ترزح لفترة غير يسيرة تحت حكم العمائم الشيعية، واللحى الوهابية. كما قلت أكثر من مرة إن هذين النظامين اللذين يُعدان من أسوا الأنظمة الاستبدادية في العالم، ما فتئا يقدمان الأدلة الساطعة على ضرورة العلمانية والدولة المدنية التي وحدها من يستطيع إيقاف الحروب ووضع حدّ للمذابح الطائفية.
تعدّ المملكة العربية السعودية البلد الوحيد تقريبا الذي يشتري تخلفه بالمال، حيث استطاع أن يحافظ على أحد أقدم أنماط الحكم القائم على مختلف أشكال خرق حقوق الإنسان وإهانة كرامة المواطنين وخاصة من النساء والشباب، دون أن تطاله عقوبات من أي نوع، ذلك أن أموال العائلة الحاكمة والأمراء والنخب الغنية بأموال البترول والمودعة في بنوك الغرب وخاصة في أمريكا، تجعل أي تفكير في الضغط على هذا البلد من أجل إخراجه من البداوة العشائرية أمرا منافيا لـ”الحكمة” التي تقتضي قبل كل شيء بالنسبة للغربيين الأنانيين، حماية المصالح المادية وضمان الحفاظ على امتيازات في الشرق الأوسط.
فرغم أن السعودية تعتبر من الدول الغنية، (تملك ما يقرب من 800 مليار دولار احتياطي من عملة عائدات النفط، وتجثم فوق ربع احتياطي النفط العالمي)، إلا أن معدل البطالة والفقر فيها مثير للدهشة، كما أنها بمعايير “جودة الحياة” تعتبر خارج التصنيف، لأن شبابها ونساءها يعيشون حياة في غاية الشقاء، بسبب انعدام الحريات الأساسية، وانعدام جودة التعليم الذي يقوم على مرتكزات عتيقة تؤطرها فكرة “الجهاد” ونشر الدين بـ”كل الوسائل”، كما أن الحياة السياسية تفتقر إلى أبسط المقومات (لا تعددية حزبية ولا برلمان حقيقي)، وعندما طالب بعض أعضاء النخبة السعودية من الحقوقيين الاصلاحيين في مطلع عام 2004 بتحويل المملكة العربية السعودية إلى مملكة دستورية، في عريضة وجهت إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز، تم اعتقالهم وإيداعهم في السجن، وعرض عليهم لكي يخرجوا أن يعلنوا “التوبة” عن أفكارهم، وقد أفتى أحد فقهاء المملكة آنذاك مفسرا لهذا القرار التعسفي قائلا:”الخوض في شأن حكام المسلمين وسياستهم هو من الخطأ المحض الذي يجب تركه، لأنه من صفات أهل البدع لا من صفات أهل السنة والجماعة .فأما أهل السنة والجماعة فإنهم يدعون للحكام المسلمين وإن جاروا وفسقوا، ولا يدعون عليهم، ويظهرون محاسنهم ولا يظهرون مساوئهم وهذا معلوم قاله علماء السلف ويقول به أتباعهم اليوم”(كذا !).
بعد سنوات من هذه الواقعة، وتحديدا في سنة 2011، ومباشرة بعد انتفاضات تونس ومصر وليبيا، أعلنت بعض القوى الحيّة في هذا البلد نيتها في تنظيم “يوم غضب” في 11 مارس من السنة المذكورة، من أجل التحرّر والتغيير، فتململ جيش الدعاة والفقهاء مندّدين بـ”الفتنة” القادمة، مطالبين أولي الأمر بعدم الرأفة بهؤلاء “المخربين” المطالبين بحقوق الإنسان وبالديمقراطية، ولم تستجب السلطة لهذا المنظور القمعي فقط، بل قام ملك البلاد آنذاك بتوزيع الكثير من المال على العائلات والأفراد، وهكذا أنفق على إرشاء مواطنيه ما يقرب من 36 مليار دولار لشراء السلم الاجتماعي دون إحداث أي تغيير.
وقد صرحت الباحثة الأنثروبولوجية السعودية مي اليماني للصحافة الفرنسية آنذاك قائلة: “إذا كان هناك مثال لدولة مجمّدة فهي السعودية، حيث حوّل المال الوفير البلاد إلى ثلاجة ضخمة”، مضيفة وهي تتحدث عن النظام السعودي: “هذا النظام بكل بساطة لم يعد يجدي نفعا من الآن فصاعدا”.
غير أن مشكلة السعودية الكبرى اليوم لا تكمن فقط في أنها نسق عتيق يخفي وراء واجهته الزجاجية نظاما عشائريا خارج التاريخ، بل إن المشكلة أن هذا الكيان علاوة على اضطهاده لشعبه واستعباده للأجانب الذين يعيشون على أرضه، يسعى إلى الهيمنة استراتيجيا في المنطقة، وإلى زعزعة استقرار بلدان الجوار، سواء عبر إشاعة التطرف الديني الوهابي أو عبر تسليح المجموعات المتطرفة، وخلال ذلك كله، ورغم ما تسفر عنه هذه السياسة من كوارث وخراب يلمسه القاصي والداني، فإن هذا النظام يعتبر نفسه الأفضل، كما يعتبر ثقافته الأرقى، وفي هذا الصدد يقول أحد أعضاء مجلس الشورى السعودي المتنورين الشيخ ابراهيم البليهي: “منذ أكثر من قرنين، منذ الغزو الفرنسي لمصر، تعرضنا لصدمات هائلة، لكننا لم نستطع أن نستفيد منها لأننا ما زلنا نتوهم أننا الأفضل، وأن الآخرين هم الأسوأ” ويضيف قائلا:”معيار التحضر هو قابلية التغير، الغربيون اعتذروا عما فعله أجدادهم، بينما نحن ما زلنا نمجد الفتوحات والغزو، بل وندعو لغزو جديد حتى ونحن لا نملك القوة لذلك”.
في السنوات الأخيرة التي أعقبت انتفاضات 2011، بذلت السعودية أموالا طائلة من أجل إفشال الانتفاضات حتى لا تؤدي إلى إنجاح مسلسل الدمقرطة الداخلية في بلدان الشرق الأوسط، الشيء الذي تعتبره خطرا عليها، كما عملت على إنفاق أموال طائلة من أجل تمويل المجموعات الإرهابية في العراق لعرقلة حكم الشيعة في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وفعلت نفس الشيء في سوريا، والنتيجة يراها الجميع .. خراب شامل.
ويعدّ النظام الإيراني بدوره واحدا من أسوا الأنظمة الدينية في العالم، حيث يقوم على “ولاية الفقيه” التي تجعل لرجال الدين السلطة الأولى في النسق السياسي، إذ يهيمن المرشد العام على الجيش والأمن والقضاء، ويترك فتات السلطة للرئيس المنتخب الذي يظل تحت مراقبة دائمة من طرف الحرس الثوري، التابع للمرشد العام، ولهذا ليس مستغربا أن الرئيس المنتخب لا يستطيع رفع الحظر عن المنابر الإعلامية التابعة لتياره السياسي، ولا إطلاق سراح معتقلي الرأي من مناصريه، ولا إجراء أي من الإصلاحات السياسية إلا في حدود ما لا يمسّ بالسلطة المطلقة للمرشد العام، الذي يظل جاثما على صدر الشعب الإيراني مثل غُمة لا تنقشع.
وكما هو الشأن في السعودية، تعيش أغلبية الشعب الإيراني من الشباب والنساء في وضعية مزرية، حيث لا تتطابق طبيعة النسق السياسي العتيق مع تطلعات القوى الحية في البلاد، وتعمل السلطة على مواجهة أي احتجاج في الشارع بقمع وحشي وبأسلوب الاختطاف والتعذيب والاغتيالات. وهو ما حذا بالنظام إلى إثارة كل أنواع الصراعات مع الجوار الإقليمي ومع الخارج، لصرف الأنظار عن المشاكل الداخلية، فقررت سلطات الملالي “تصدير الثورة”، وظلت عينها على العراق الذي يضم 60 في المائة من الشيعة، وكان هذا واحدا من بين الأسباب الكثيرة للحرب الطاحنة التي أقحمت فيها إيران مع جارتها العراق، والتي دامت ثماني سنوات كانت بمثابة جحيم حقيقي للشعبين اللذين يعيشان في بلدين غنيين بأموال البترول.
ولأن نظام الملالي يقوم على إيديولوجيا دينية متشدّدة، فقد كان بحاجة إلى عدو دائم يقوم بالتعبئة ضده، فكان الغرب هو ذلك العدو، مما أدى إلى ضرب حصار شامل على الشعب الإيراني لكي لا يتمتع بثمرات الحداثة وبالحريات وحقوق الإنسان، التي اعتبرت كلها غربية وقبيحة، كما وجّه اهتمامه إلى الصناعة العسكرية، ودخل في سباق مع الزمن من أجل إنتاج السلاح النووي، الذي أصبح يشكل تهديدا حقيقيا للمنطقة بكاملها، مما جرّ على إيران حصارا دوليا امتدّ لعقود، وأفضى إلى بؤس اجتماعي وإلى شلل في الاقتصاد الوطني لمدة طويلة.
واليوم تعمل إيران جاهدة على الحيلولة دون قيام دولة سنية في العراق وسوريا، وعلى صدّ المجموعات المتطرفة بالبلدين، وتبذل في سبيل ذلك أموالا كثيرة تنفق في السلاح المدمّر وفي تدريب المحاربين، كما تعمل السعودية على تغذية التطرف الوهابي المسلح من أجل الحيلولة دون قيام دولة شيعية في المنطقة، فتفرق الشعبان العراقي والسوري في المنافي، وأصبح البترول وقودا لفتنة دائمة. كل هذا يجري أمام أنظار من سموا أنفسهم “علماء الأمة”، الذين تحولوا إلى عبيد لإمارات النفط التي يشتركون معها في الخوف من الديمقراطية، فصارت فتاواهم تنظيرا للقتل والذبح، وحطبا إضافيا للفتنة المستعرة.
ومع إعدام السعودية لأحد أئمة الشيعة، في خطوة خرقاء غير محسوبة العواقب، وهو الحدث الذي انضاف إلى احتقانات سابقة، أصبح نظاما الشرّ في مواجهة مفتوحة على المجهول، والسؤال المطروح هو التالي: متى تدقّ ساعة الحقيقة، فيدرك الشعبان السعودي والإيراني وبقية شعوب المنطقة، بأنه لا حلّ إلا في الدولة المدنية العلمانية، دولة المواطنة التي على رأسها حكام منتخبون لهم صلاحيات حقيقية، يعتمدون في ممارستها قوانين محايدة لا شيعية ولا سنية، دولة الحريات والمساواة والعدل الكفيلة بأن تطلق سراح الشعوب وتخرجها من وصاية العمائم واللحى التي تقود العالم إلى التهلكة.