معنى “تظل”و”أيضا” الواردتين في الفصل الخامس من الدستور
بقلم: أحمد عصيد
من بين عوامل النكوص والتعثر في التجربة الديمقراطية المغربية، التفاوت الكبير الموجود بين الفاعلين السياسيين والمدنيين في مواكبة خطوات الدمقرطة البطيئة ومكتسباتها، وهي الخطوات التي تنجز بضغوط كبيرة من الفاعلين الديمقراطيين والقوى الحية بالبلاد، ففي الوقت الذي يتمّ فيه استيعاب هذه المكتسبات من طرف البعض، يتم تجاهلها التام من طرف البعض الآخر، وخاصة التيار الذي يعاني من جمود إيديولوجي كبير يجعله يقع في دوغمائية مزمنة. ويصبح هذا المشكل عائقا حقيقيا عندما يجتمع الكلّ في المجالس العليا أو اللجان الوطنية لصياغة قوانين وأرضيات جديدة، إذ يبدو واضحا عندئذ الفارق المهول في الخطاب والتصورات والأهداف، مما يجعل معنى “التوافق” يكاد يُصبح مرادفا لمعنى التراجع، لأن التوافق مع من لا يريد التغيير والتطور هو في الحقيقة عودة إلى الوراء وتضحية بالمكتسبات.
حدث هذا في المجلس الأعلى للتعليم، عندما فوجئ الناس بأعضاء يتحدثون خارج دستور 2011، ويتجاهلون حتى أن اللغة الأمازيغية لغة رسمية للبلاد، ويتعمدون الحديث عنها كما لو أنها ما تزال في وضعيتها السابقة على 2001، وهي السنة التي انطلق فيها مسلسل المأسسة والتهيئة اللغوية الرامية إلى إعداد هذه اللغة لممارسة وظائفها الجديدة في الدولة والمؤسسات.
وكان من نتائج هذا التفاوت بين أعضاء المجلس هدر الكثير من الوقت في نقاش يعود إلى سنوات السبعينيات من القرن الماضي، عوض استكمال البناء الديمقراطي على أساس المكتسبات المتحققة، وكانت النتيجة أن تمخض عمل المجلس عن مهزلة حقيقية تعطي للغة رسمية وضعية مضحكة في التعليم، لا تتطابق حتى مع ما تمّ عمله على مدى الإثني عشر سنة الأخيرة، وبالأحرى مع وضعية لغة الدولة، وهي أمور سيتمّ بلا شك تداركها في القانون التنظيمي الخاص بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، الذي سيكون عليه أن يوضح بتفصيل منطلقات وأسس ومراحل إدراج وتعميم اللغة الأمازيغية في التعليم أفقيا وعموديا.
ويحدث هذا مرة أخرى داخل اللجنة المكلفة بوضع القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات، حيث سمعتُ أن هناك من يقول بضرورة تكريس التفاوت بين اللغتين الرسميتين، لأن الدستور ينصّ على أن العربية “تظلّ” اللغة الرسمية للبلاد، وينصّ بجانب ذلك على أن “الأمازيغية أيضا لغة رسمية للبلاد”، ما يعني وجود سبق للغة العربية التي حظيت بالترسيم منذ 1962 بينما لم تصبح الأمازيغية رسمية إلا في سنة 2011، والحقيقة أن هذا التلاعب بالألفاظ لا يفيد مطلقا أي تفاوت أو مفاضلة بين اللغتين، وإلا لكان علينا أن نقول في معرض الحديث عن “السبق التاريخي” إن الأمازيغية وُجدت على الأرض المغربية منذ آلاف السنين قبل مجيء العربية، وأن هذا مبرر للمفاضلة بينهما لصالح اللغة الأصلية، وهو كلام لا موجب له ولا معنى في سياق البناء الديمقراطي. وفيما يلي خلفية هذه الصياغة التي تسربت إلى الدستور في الأسبوع الأخير قبل إحالته على الاستفتاء:
من المعلوم أن الصياغة الأصلية للوثيقة الدستورية التي تمخضت عن أشغال لجنة مراجعة الدستور هي :
“المغرب دولة مدنية ذات سيادة لغتاها الرسميتان العربية والأمازيغية”. وهي العبارة التي ضغط حزبا الاستقلال والعدالة والتنمية لدى “الآلية السياسية” التي كان يرأسها المستشار الملكي محمد معتصم من أجل تغييرها بتحويل اللغة الأمازيغية إلى وضعية اللغة الوطنية فقط والإبقاء على الترسيم للغة العربية وحدها، لكن الحزبين لم يوفقا في مساعيهما، حيث كان ترسيم اللغة الأمازيغية قد أصبح مطلبا شعبيا عندما رُفع في الشارع المغربي داخل حركة 20 فبراير، كما ورد في أغلب المذكرات التي قدمتها التنظيمات المختلفة للجنة مراجعة الدستور.
فكانت التعديلات التي تمت على الفصل الخامس جبرا للخواطر ومجرد تلاعبات إنشانية لا تفيد في تغيير الوضع الرسمي للغة الأمازيغية بجانب العربية. حيث كان هدف الذين اقترحوا تعديل الصياغة الأولى ـ بعد أن فشلوا في إلغاء الترسيم ـ هو محاولة الالتفاف على الوضع الرسمي للأمازيغية عبر الإيهام بأن هناك لغة رسمية “أولى” ولغة رسمية “ثانوية”، غير أن هذا لم يتم التنصيص عليه ولا أثر له في نص الدستور. وهو ما يجعل كلمة “تظل” تعني فقط أن ترسيم الأمازيغية لا يعني التخلي عن العربية، بل “تظل” العربية أي تبقى لغة رسمية وتنضاف إليها الأمازيغية بوصفها لغة رسمية “أيضا”، وتعني “أيضا” في معجم اللغة العربية “بالمثل” أي بنفس الشكل “تكرارا ومراجعا”، وليس عكس ذلك كما توهّم البعض.
بجانب ما ذكرنا فما غاب عن أصحاب هذه الرواية التأويلية غير الديمقراطية هو أن ترسيم اللغة الأمازيغية إنما تم لإنهاء الميز وليس لتكريسه من جديد ومن خلال الدستور نفسه، فلكي يكون دستور 2011 متقدما مقارنة بسابقه لا بد من تدارك مساوئ الماضي وإنهاء كل أشكال الميز التي طبعت السياسات العمومية في المراحل السابقة.
أما حقيقة الدوافع التي أدت إلى مثل هذه الصياغة الركيكة التي يطبعها الإسفاف، فهي أن التيار الذي كان يتزعمه حزب الاستقلال ويعمل في ظله حزب العدالة والتنمية قد انطلق من قناعة خاطئة تعتبر أي تقدم أو نهوض للأمازيغية يشكل خطرا على العربية، وهو منظور مبني على ذهنية الميز الأحادية التي تكرّست على مدى عقود، فالدولة حسب هذا الرأي يجب أن تكون لها لغة واحدة، وكل اهتمام بلغة أخرى سيكون تضييقا على لغة الدولة، (وهذا ما يفسر ظهور جمعية تطالب بـ”حماية” اللغة العربية سنة 2007 فقط، أي بعد ثلاث سنوات من إدراج اللغة الأمازيغية في التعليم)، وأعتقد أن هذا المنظور قد تمّ تجاوزه بشكل نهائي مع دستور 2011، ولا مجال للعودة إليه، والفكرة الجديدة التي ينبغي على أساسها بناء المستقبل هي فكرة المساواة التامة بين المغاربة وبين مكونات إرثهم الرمزي، فلكل لغة مكانتها في الدولة، ولها إمكانياتها الخاصة وميزانياتها وأخصائيوها ومؤسساتها، والكل يعمل في إطار منظور وطني وحدوي تكاملي من أجل النهوض بالبلاد، وهذا معناه أننا بحاجة إلى نخب جديدة، وأن النخب القديمة التي لم تستطع مواكبة التطورات المتلاحقة لا يمكن أن تفيد في هذا المنحى الانتقالي، وينبغي إحالتها على التقاعد عوض إقحامها في اللجان والمجالس التي مهمتها إرساء التوجهات والمنطلقات الجديدة.
إن المساواة بين اللغتين العربية والأمازيغية هو مساواة بين المغاربة كافة، وكل محاولة للمفاضلة المعيارية بينهما في القوانين سيكون بمثابة مأسسة للميز وللعنصرية من جديد، في الوقت الذي كان فيه المغرب مهيأ لتجاوز عثراته في اتجاه المستقبل.